...جار التحميل

بودرهم يوسف في مقال رأي.

تجديد الخطاب الديني وفهم الهوية المغربية.

تم نسخ الرابط !
تم نسخ الرابط !
15 يوليو 2025 à 19h26

بات من الضروري اليوم في وطني التمييز بين الدين كتجربة روحية ومرجعية قيمية، وبين التدين السياسي كتوظيف أيديولوجي للدين، هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فبعض الأصوات داخل وخارج وطني، لا ولم تعد تكتفي بالتعبير عن الرأي فقط، بل أصبحت ترتفع دون سند قانوني أو شرعي أو حتى هوياتي، مستغلة المسألة الدينية لإثارة التوترات الهوياتية والطائفية، في أسلوب ممنهج يروم زرع الفتنة والتمييز، وهو ما نرفضه جملة وتفصيل. وفي هذا السياق، أصبح لزامًا علينا أن نعلن، بوضوح، حاجتنا إلى تجديد الخطاب الديني في المملكة المغربية الشريفة، ليس من باب الترف ترفًا الفكري، أو الإجتهاد الديني والفقهي، أو من باب البحث الأكاديمي، بل كضرورة حضارية وإنسانية تساهم في البناء والاستقرار المجتمعي. وقصدنا من هذا التجديد، هو الوقوف إلى جانب العلم من باب تنقية هذا الخطاب من شوائب الغلو والتشدد، ومن كل توظيف سياسي أو أيديولوجي يخلط بين الدين والتدين، وما بين الإيمان والتعصب، وما بين العقيدة والتأويل المغلوط. إن هذا التجديد المنشود لا يعني أبدًا إفراغ الدين من جوهره، أو القطع مع ثوابته الراسخة التي نؤمن بها، بل هو عودة إلى روح الدين في صفائه الأول ونقائه الطبيعي، باعتباره رسالة رحمة للعالمين، ومنظومة قيمية قائمة على العدل، وبناء الأخلاق وحسن المعاملات والجوار، وتماسك المجتمعات. نعم، هذا التجديد الذي نأمل أن يعيد الاعتبار للبعد الإنساني في الدين، ويصون قدسيته من الاستغلال، ويوجه الخطاب نحو ترسيخ السلم والتعايش، لا نحو التفريق والإقصاء والتعصب الطائفي أو العرقي. وهنا، تبرز الهوية المغربية كنموذج فريد استطاع أن يحفظ توازنه بين الأصالة والانفتاح، وبين التعدد والتلاحم، فهذا الإنتماء ليس هوية قائمة على الإقصاء أو التمايز العرقي أو المذهبي، بل هي هوية فسيفسائية تشكّلت عبر العصور من تلاقح حضارات متعددة، الأمازيغية، والعربية، والأندلسية، والإفريقية، واليهودية، والحسانية، والمتوسطية المسيحية، في تمازج جعل منها نموذجًا عالميًا تاريخيا في التعايش. وما لا يجب أن نتطرف منه أو نغفله، هوأن المكوّن اليهودي لم يكن هامشيًا في هذه الهوية، بل ظل عبر قرون حاضنًا لخصوصيته الدينية والثقافية في كنف دولة إسلامية، تنظر إليه كمواطن كامل الحقوق، له جذوره وذاكرته وولاؤه لهذا الوطن، من فاس إلى أحياء مراكش والرباط وباقي مدن المملكة العتيقة، ومن الحكماء اليهود في بلاط السلاطين إلى المواطنين العاديين في أعماق الجبال، تظل اليهودية المغربية جزءًا أصيلاً من الروح الوطنية، وليست مجرّد تفصيل تاريخي عابر. لهذا سأحاول الوقوف على أربعة نقط على سبيل المثل لا الحصر:

1: البعد التاريخي للهوية المغربية عبر تعاقب الدول من الأدارسة إلى الدولة العلوية الشريفة، كان المغرب يُبنى ككيان سياسي مستقل وموحّد رغم تنوعه، فالتاريخ المغربي لم يكن تاريخ هيمنة عنصر على آخر، بل تاريخ تعايش وتدافع حضاري سلمي، حيث كان للمسلمين واليهود دور مشترك في بناء الدولة والمجتمع، من الاقتصاد إلى الفقه، ومن الطب إلى التجارة، وحتى السياسة. بمعنى اخر، كان الحضور اليهودي في المدن العتيقة، وفي الدواوير الجبلية، عنصرًا مركزيًا في معادلة الانتماء الوطني، ولم تُسجل في تاريخ المغرب فصول طرد أو اضطهاد كما عرفتها بلدان أخرى، وهو الشيء الذي يعزز حقيقة أن المغرب لم يكن يومًا أرض صراع ديني، بل أرض تعايش وتناغم

2: البعد السوسيولوجي ينعكس هذا التعدّد التاريخي على البنية السوسيولوجية المغربية التي تتسم بتداخل الثقافات والمكونات، لأن المغربي لا يُعرّف فقط بلغته أو عرقه أو دينه، بل بمنظومة قيمية تنهل من الجميع. وفي هذا السياق، يشكل اليهود المغاربة جزءًا من ذاكرة المجتمع المغربي ومخياله الشعبي، من خلال الأطعمة، والحِرف، والموسيقى، وحتى الأمثال الشعبية. بل إن التقاليد اليهودية المغربية اندمجت داخل المحيط الاجتماعي العام، دون أن تفقد خصوصيتها، وهو ما يُترجم في الأعراس، في اللباس التقليدي، وحتى في لهجات معينة ما تزال تتداول كلمات من أصل عبري. فالسوسيولوجيا المغربية اليوم ليست عربية ولا أمازيغية فقط، بل هي مرآة جماعية تعكس التنوع الروحي والثقافي واللغوي الذي يشكل عمق الوطن.

3: البعد الديني تميزت الهوية الدينية المغربية بالاعتدال والانفتاح على الآخر، لأن الإسلام المغربي، القائم على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، لم يكن يومًا عقيدة إقصاء، بل كان أساسًا للتسامح الديني وحماية الأقليات. كما ظلت مؤسسة إمارة المؤمنين، بصفتها الضامنة للثوابت، لم تحمِ فقط الإسلام المعتدل، بل صانت الحقوق الدينية لليهود المغاربة أيضًا، في رسالة قوية بأن الدين في المغرب ليس عامل تفرقة، بل رافعة وحدة وطنية. كما أنه، لم تكن المعابد اليهودية مغلقة، بل كانت مفتوحة في وجه ممارسي شعائرهم بحرية، وظل "الحاخام المغربي" يحظى بالاحترام، تمامًا كما يحظى الفقيه والخطيب، أي أن العيش المشترك في المغرب ليس شعارًا سياسيًا، بل تجربة روحية واجتماعية عريقة، تتجلى حتى في طقوس الزيارة المشتركة للأضرحة اليهودية من طرف المسلمين، في ما يشبه الإخوة التي تتجاوز الحدود العقائدية.

4: البعد الدستوري إن التنصيص الدستوري على تعدد روافد الهوية المغربية في دستور 2011 لم يكن اعترافًا متأخرًا، بل تتويجًا لمسار طويل من الوعي التاريخي والإنصاف الرمزي. فالديباجة تنص على أن المغرب، إلى جانب كونه دولة إسلامية، يستمد هويته من روافد عبرية وأندلسية وإفريقية ومتوسطية. وهذا الاعتراف بالبعد العبري ليس مجرد اعتراف بالوجود، بل هو إقرار قانوني بالمساهمة اليهودية في بناء الأمة المغربية. وبذلك، يفتح الدستور الباب أمام سياسات عمومية تحفظ الذاكرة المشتركة، وتحارب كل أشكال التمييز، وتُدرّس التعدد كمصدر غنى لا كخطر محتمل.

ونافلة القول، فإن تجديد الخطاب الديني بالمملكة المغربية ليس خيارًا ظرفيًا، بل هو استجابة حتمية لتحولات الواقع، وضرورة لضمان استمرار الدين في أداء رسالته الأصيلة، بعيدًا عن التوظيف المغرض والتأويلات المنحرفة، لهذا فنحن مدعوون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى قراءة الدين في ضوء مقاصده الكبرى، لا في ظلال الصراعات السياسية أو المزايدات العقائدية. فالدين الذي احتضن التعدد، وبنى حضارات، وصان كرامة الإنسان، لا يجوز أن يُختزل في شعارات جوفاء أو يُستغل في زرع الفرقة بين المغاربة. فلنجعل من التجديد جسرًا نحو فهم أعمق، وسلوك أنقى، ونموذج وطني يعكس خصوصيتنا المغربية، المتشبعة بروح الوسطية والاعتدال، في ظل إمارة المؤمنين، التي تظل صمام الأمان للهوية الدينية الجامعة والموحِّدة.

أضف تعليقك

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

  • بشرى صغيير
    15 يوليو 2025 الساعة 22:54

    دائما في الطليعة مواضيع قيمة مزيدا من التألق والابداع

    1 0
  • بشرى صغيير
    15 يوليو 2025 الساعة 22:54

    دائما في الطليعة مواضيع قيمة مزيدا من التألق والابداع

    1 0
// Function dyal Copy Link top // Function dyal Copy Link bottom